الموسوعة الإعلامية




عبد الحميد الصائح

ما أعظم حزنَ العراقي، وما أسوأ شكواه، الحزن عميق ولامع ومنتج ومهيب، والشكوى مذلة وضيعة.

الكثير، حتّى من أهل الفنّ والغناء والأدب لا يفرقون بين الحزن والشكوى، فتراهم يصرخون ويزعقون طلباً للحب، والبحث عن الثأر من غدْر الزمان،

ولو بحثت طويلاً وجهدت في ذلك، لن تجد لحظة حزن ولا دمعة حزن ولا صفنةَ حزن عميقة في ثنايا ما ينشدون، الحزن كتَبَ قصصاً وتراثاً وأنتج علماً، ونقل تجارب أقوام ومجتمعات، وكان أقوى من مكر السياسة،

 

كان دهاقنة الحزن العراقي من الذين وقفوا بوجه السلطان، يموتون جوعاً دون أنْ يبيعوا ذمّة أو يخونوا عهداً، أو يرضخوا لحاكم متجبّر أو قفّاص سياسي، أو تابعٍ مختالٍ فخور، هؤلاء هم أهل الحزن، أكرموا وضحّوا بدمائهم ولقمة عيشهم من أجل الآخرين، حزانى لكنهم يترفعون كثيراً عن الشكوى،

 

بل كان الحزن لهم زينة وعادة ووساماً، فالذي لا يشكو عفيف، لكن الذي لا يحزن خطِر بلا قلب، ها هي بغداد التي أشرقت بنورها على العالم يوماً، كتبت وطبعت ونشرت، عبدت وألحدت وتجّملت وغنّت ورقصت وخفتت واشتعلت، وصنعت الفرح للبشرية منذ بزوغها، توصف بالحزن في كلّ شيء، بالغناء والشعر والموسيقى،أتذكّر إجابة نادرة للمفكر الراحل السيد محمّد حسين فضل الله، سأله مذيع قناة عربية سؤالاً لئيماً مركبّا ما هو رأيك بالغناء العراقي؟ فإجابة السيد رحمة الله بفطنته المعهودة: (عندما يغني العراقيون تعال إليّ بسؤالك)!

 

الحزن إذن ذاكرة، وتاريخ وحوادث وأزمان، وقلبٌ ظلّ ينبض طويلاً من نواح كلكامش على أنكيدو، إلى نواح أم عباس على فقيدها في سبايكر، لا توجد أرض عُجن ترابُها بدماء خلق الله كما هي بلاد العراق، ولا يوجد ظلم إلا وحدث على أرضها من محارق (نرام سين) الذي أحرق المعابد وقتل الزرع والضرع في أكّد وأُور، إلى أفاعي داعش التي هجّرت أهل العراق الأُصلاء وهدمت كنائسهم وأُحرقتْ بيوتهم، مروراً بنزاع المسلمين حين شهدت هذه الأرض أزكى الدماء وأطهر الأرواح وأقدس المواقف، 

 

ولذلك، فحزن العراقي ليس حزنه الشخصي بل هو وريث الحزن الأوّل، ينوب بعاطفته عن البشرية جمعاء منذ بيضتها الأولى، فتراهم يحاورون به. كيف يمكن فهْم العراقي؟ هذا الذي يستعرض حزنه وكأنه يستعرض ذكاءه؟ يسخر من حياته، وأيضاً يفاخر بها، يؤلّف الرعب ويبالغ بالتحذير من العدم، وفي الوقت نفسه يراهن على المستقبل! ومع ذلك لا أحد ممن وثق بهم أو راهن عليهم أنصفه، حتّى الذين يظلمونه يلومونه، حتّى الذين يسرقونه، يتهمونه بالتقصير، حتّى الذين يدخلونه حروباً، يحمّلونه نتائج الحماقةِ والعصبيةِ وقلة الحِلم، حتّى الذين ينتخبهم لإدارة شؤونه ويخذلونه يَسِمونَه بالنفاقْ!

 

عجيب أمر العراقي فعلاً، لا يعرف بالضبط من هو معه، ومن هو ضده من الذي قاد بلاده و (فشِلَ) حين حطمها؟ ومن الذي قاد بلاده و (نجح) حين حطمها؟ ومع ذلك كلّه لا يوجد كائن من بين خلق الله جلت قدرتُه، سعيدٌ بحزنه كما هو العراقي.

 


@*@model web.ViewModels.NavMenuVM*@