الموسوعة الإعلامية




عبد الحميد الصائح




كانت البهجة تسبقه وهو يُطل علينا من موعدٍ مهم جداً، لقد أبْلغتْه بلديةُ العاصمة البريطانية خبراً سعيداً فوق العادة،
 إنّه صديقي قداسة المطران إثناسيوس توما داوود رئيس الطائفة السريانية في بريطانيا، الأبُ الذي أعشق الاستماع له والحديث معه بحرية تامة، حول الدين والسياسة والتاريخ والدنيا والآخرة والنازحين والهوية والمجتمع، وكأنّه المسؤول المباشر عن البشر جميعهم.
منذ أكثر من عام والمطران يتنافس مع جمعيات إسلامية لشراء كنيسة قديمة في منطقة (أكتِن) شمال غرب لندن وقد بذل الرجل ما في وسعه كي يتمكن من شراء الكنيسة وتجديدها وتحويلها إلى مركز عبادة للجالية السريانية في بريطانيا،
 وبفضل الله وبركات سيدنا المسيح آلت الكنيسة المهجورة إلى سيدنا توما والجالية التي وراءه ليبدأ العمل ببنائها بعد استحصال إجازات البناء والإجراءات اللازمة، باستثناء إجازة واحدة رفضت بلدية لندن بادئ الأمر منحها إياه، ومع الإلحاح أخضعتها للدراسة، حتّى اتّخذت قرارها الذي اعتبره أبونا الرحمةَ كاملة بعينها.
لقد وافقت البلدية أخيراً على طلبه أن يدفن داخل الكنيسة نفسها،
 وليس في المقابر الخارجية، وهذه الموافقة الثمينة ليست بسيطة في بريطانيا، لكنّها بالنسبة للأب توما تعني الحياة الأبدية،

حتّى الآن الخبر اعتيادي في سياق الإيمان باليوم الآخر، وعمل الخير خوفاً من نار الله أو طَمَعاً في جنته، وكثيرٍ من الروايات والحِكم والنصوص المختلف حول كونها حقيقة أو افتراضاً، لكنّ مستوى الفرح الذي اشتعل في صدر ومحياً المطران يجعله محط حسدي له فعلاً، حسدي، وأنا العبد الفقير البسيط الذي لم أحسدْ شخصاً في حياتي، لكوني أرى أيّ كائنٍ مصيره الزوال في النهاية مثيراً للشفقة، لا يصحّ معه الحسد مهما تمتع به من جاهٍ أو مال أو امتياز أو نفوذ.
فرحُ الأب توما يعني بالضبط اليقين التام، اليقين غير المتردد بأنّه سيدخل القبر معززاً مكرماً معطراً بأبهى ملابسه وصولجانه، يودّعه أحباؤه وهو يصغي إلى أدعيتهم، ويستقبله الملائكة الذين طالما حدّث الناسَ عنهم، والقديسون الذين خدمهم ونقل إلى البشر تعاليمهم، دافئاً آمناً داخل الكنيسة التي بناها بنفسه، وخارطة القبر التي صممها بيده وأشرف على تنفيذها .
فَرَحُ من ينتظر المكافأة على صبره، وحرمان جسده من الشهوات، ونفسِه من المُتعِ واللذائذ، 
شعور تام ينعدم معه الهلع من فكرة الموت والفناء، يقين لا يحسد ابنُ آدم على شيء إلا عليه، طاقةٌ فريدةٌ من الاطمئنان والسكينة، لا تستطيع أنْ تقلدَها أو تتدربَ عليها، طالما كنتَ أسيراً للشكّ بما يقال والتردد في اتّخاذ القرار، فالإيمان رحمة، الإيمان أهم من الوعي والمال والثقافة بل أهم من الصحة وأهم من الحرية، لأن بالإيمان واليقين تصغر في عينك عظائم الدنيا، وتتغير تعاريف المرض والحاجة والموت والأسف واليأس، لكن المعضلة الكبرى: كيف يتحقق في روحك ذلك اليقين النهائي الفذّ، ذلك هو السؤال؟
أحييك أخي نيافة المطران، وأهنئك على قرار بلدية لندن بدفنك بعد موتك داخل الكنيسة، ومباركٌ لك يقينُك.

 


@*@model web.ViewModels.NavMenuVM*@