المسلة

المسلة الحدث كما حدث

العلاقة الأميركية- الإسرائيلية… الأسس والأهداف

العلاقة الأميركية- الإسرائيلية… الأسس والأهداف

1 مايو، 2024

بغداد/المسلة الحدث:

عقيل عباس

في هذه الأيام يبرز إلى السطح صراع سياسي علني ونادر بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل بخصوص الحرب في قطاع غزة، خصوصا مع تصاعد النقد الرسمي الأميركي لإسرائيل لعدم بذلها جهدا كافيا للتمييز بين المدنيين والمحاربين في حملتها العسكرية في القطاع، الذي تُرجم إلى عدد كبير من الضحايا المدنيين، فضلا عن اتهامها بالتسبب في المأساة الإنسانية الكبيرة التي يعيشها المدنيون. كان امتناع أميركا عن استخدام حق النقض لقرار مجلس الأمن الأخير المرقم 2728، الذي يطالب بوقف عاجل لإطلاق النار في غزة والذي ترفضه إسرائيل بشدة، تخليا عن دور تقليدي اضطلعت به أميركا تاريخيا بحماية إسرائيل من الإجراءات والانتقادات الدولية المؤسساتية ضدها.

وبغض النظر عن المسار الذي سيمضي فيه الخلاف الأميركي- الإسرائيلي تصاعدا أو تراجعا، يختبر هذا الخلاف العلني مقولات سائدة في العالم العربي بخصوص عمق نفوذ إسرائيل في المؤسسات السياسية والإعلامية في أميركا إلى حد قدرتها على التحكم في السياسة الأميركية، على الأقل عند تعلق الأمر بالشرق الأوسط. معظم هذه المقولات مغلوطة، وقائمة على سوء فهم كبير، وبعضها مرتبط أو ناشئ من تفسيرات مؤامراتية وافتراضات عنصرية.

اهتمام أميركا الجدي بإسرائيل يعود إلى عقد الستينات ويقوم، بشكل أساسي، على اعتبارات تتعلق بالمصالح السياسية والاعتبارات الثقافية وأحيانا بقناعات فردية لشخصيات سياسية وليس على هيمنة إسرائيلية أو “يهودية” مفترضة على القرار السياسي في أميركا. فمثلا اعتراف الولايات المتحدة بإسرائيل كدولة بعد دقائق من تشكيل حكومتها المؤقتة برئاسة ديفيد بن غوريون في يوم انتهاء الانتداب البريطاني يوم 14 مايو/أيار 1948 جاء على أساس الرغبة الشخصية للرئيس هاري ترومان، وبالضد من موقف معظم أركان إدارته الرافضة لهذا الاعتراف، ومن ضمنهم وزير خارجيته الذي يكن له احتراما كبيرا، جورج مارشال.

حاجج هؤلاء بأن هذا الاعتراف سيضر بالمصالح الأميركية عبر تقويض علاقتها بالعالم العربي. بخلاف النظرة الشائعة تاليا من أن ترومان الذي أرسل إعلان الاعتراف بإسرائيل بعد أن كتبه بخط يده من دون معرفة وزارة الخارجية التي أغضبها سلوكه هذا، فعل ذلك من أجل كسب أصوات اليهود الأميركيين في انتخابات 1948 الرئاسية ضد المرشح الجمهوري توماس ديوي المتقدم حينها في كل استطلاعات الرأي، فالحقيقة أن ترومان، المعروف بقوة تدينه المسيحي، اعترف بإسرائيل تماشيا مع فهمه للنصوص الإنجيلية التي درسها منذ الطفولة. تحدثت هذه النصوص عن تحرير اليهود من ظلم الفراعنة وعودتهم إلى “أرض الميعاد” في فلسطين، وهو الظلم الذي كان ترومان يعتقد أنه تجدد بأساليب حديثة على يد النازيين الذين تعقبوا اليهود بالقتل. كان يفرحه أن يُوصَفَ بأنه قورش، الملك الأخميني المذكور في الإنجيل الذي سيطر على بابل عام 538 قبل الميلاد وسمح لليهود الذين جلبهم نبوخذنصر بالقوة بالعودة إلى فلسطين وإعادة بناء الهيكل الذي دمره البابليون في القدس قبل ذلك بـ50 عاما تقريبا.

سجل العلاقة الأميركية الإسرائيلية حافل أيضا بالمواجهات والاختلافات، بخلاف الاعتقاد السائد عربيا. جاءت إحدى أبرز هذه المواجهات في سياق الاختلاف بخصوص حرب السويس في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 1956، أو ما يُعرف عربيا بالعدوان الثلاثي الذي شنته فرنسا وبريطانيا وإسرائيل ضد مصر بعد تأميم الأخيرة قناة السويس، والاعتراض الفرنسي- البريطاني على هذا التأميم. وقفت أميركا مبكرا ضد العدوان ومارست ضغوطا شديدة لإيقافه ومن ثم سحب القوات الفرنسية والبريطانية. لكن إسرائيل رفضت الانسحاب من الأراضي المصرية التي احتلتها في سيناء ومضايق تيران ومن قطاع غزة الذي كان خاضعا للإدارة المصرية حينها، رغم عدة قرارات دولية في هذا الصدد، آخرها القرار الأممي 1124 في فبراير/شباط عام 1957 الذي دعمته أميركا بقوة ولم تُصوّت ضده إلا فرنسا وإسرائيل. بعد رفض حكومة بن غوريون الاستجابة للطلبات الأميركية الضاغطة بضرورة الانسحاب واضعةً شروطا لهذا الانسحاب (بينها ضمان استخدامها لمضيق تيران بعد الانسحاب وإيقاف دعم مصر للعمليات المسلحة التي تُشن ضدها عبر الحدود) رفضتها الإدارة الأميركية، قرر الرئيس دوايت أيزنهاور أن يلجأ للكونغرس لتسليط المزيد من الضغط على إسرائيل. لكن بإزاء رفض الكونغرس دعم الرئيس بسبب وقوع بعض أهم أعضائه تحت تأثير جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، قرر الرجل أن تتصرف إدارته وحدها لإجبار إسرائيل على الانسحاب. فخاطب الشعب الأميركي موجها نقدا لاذعا لإسرائيل، قائلا: “هل يجوز أن يُسمح لدولة قامت بالهجوم واحتلال أرض أجنبية على الرغم من استنكار الأمم المتحدة أن تفرض شروطا لانسحابها؟… إذا قبلت الأمم المتحدة لمرة واحدة أن تُحَل النزاعات الدولية باستخدام القوة، سنكون بذلك قد دمرنا الأساس نفسه الذي تشكلت بموجبه هذه المنظمة، ومعها أملنا الأفضل بإنشاء نظام دولي. ينبغي أن لا يُطاح بالأمم المتحدة! أؤمن بأنه من أجل السلام، ليس أمام الأمم المتحدة من خيار إلا ممارسة الضغط على إسرائيل كي تنصاع لقرارات الانسحاب الدولية”.

هدد أيزنهاور إسرائيل بقطع المساعدة المالية البالغة 100 مليون دولار التي بدأت أميركا منذ مطلع الخمسينات منحها سنويا لإسرائيل لمساعدتها على استيعاب المهاجرين اليهود الذين طردوا من البلدان العربية. مع ممارسة ضغط سوفياتي مماثل عليها بطردها من الأمم المتحدة إذا لم تنسحب، وهو الضغط الذي بدا حينها أن إدارة أيزنهاور لن تعترض سبيله، قررت إسرائيل الانسحاب أخيرا.

كان سلوك أيزنهاور هذا محفزا بفهم أوسع للنظام الدولي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية الذي لعبت الولايات المتحدة دورا أساسيا في تشكيله، وليس بعداء محدد لإسرائيل أو خصومة معها. قام هذا الفهم على ضرورة التعلم من التجربة الفاشلة لعصبة الأمم المشكلة بعد الحرب العالمية الأولى، إذ فشلت هذه المؤسسة الدولية في منع الحروب أو اتخاذ مواقف صارمة لنزع فتيلها أو إنهائها، أو على الأقل منع تمددها، في حال العجز عن تأطيرها واحتوائها. كان يُفترض بالأمم المتحدة التي تشكلت بدلا من عصبة الأمم أن لا تكرر هذا الفشل الذي ساهم في اندلاع الحرب العالمية الثانية، وذلك عبر الإصرار على إنفاذ القرارات الدولية، وخصوصا المتعلقة بالحرب والسلام.

وفي ظل صعود صراع “الحرب الباردة” بين المعسكرين الشرقي والغربي وتعدد الحروب بالوكالة التي أدى إليها هذا الصراع العالمي، تراجع الالتزام الأميركي، كما نظيره السوفياتي، بالالتزام غير المشروط بالفهم الأصلي والأخلاقي لفكرة إنشاء الأمم المتحدة. وعلى نحو تدريجي، أصبح هذا الالتزام انتقائيا ومرتبطا أكثر بمتطلبات إدارة الصراع ضد انتشار الشيوعية بزعامة الاتحاد السوفياتي منه بمتطلبات الدفاع المستمر وغير المشروط عن السلم العالمي.

كان يمكن تَلمس هذا التحول في نهاية الخمسينات أثناء العهدة الثانية لأيزنهاور ليتسارع على نحو ملحوظ في عهد رئاسة جون كنيدي الذي رغم قلقه من مشروع إسرائيل ببناء مفاعل ديمونة النووي بدعم فرنسي وإصراره على أن يبقى مفاعلا لأغراض سلمية وإخضاعه لرقابة دورية خارجية، فإنه وجد في إسرائيل حليفا مناسبا يستحق الاستثمار فيه. وأنهى حظر بيع السلاح الأميركي ضدها، وهو الحظر الذي فرضته أميركا على كل الدول التي شاركت في حرب 1948، لكنها لم تعتقد أن هذه السياسة مجدية خصوصا مع بيع الاتحاد السوفياتي أسلحة للدول العربية المناهضة لإسرائيل. في هذا السياق باعها صواريخ “هوك” المضادة للطائرات عام 1962 حماية لها من ضربات جوية سورية محتملة. قبل هذا كانت إسرائيل تعتمد على مصادر تسليح أوروبية، على الأخص فرنسية (فرنسا كانت الداعم الأساسي لإسرائيل منذ تأسيسها إلى أن استبدلتها بأميركا تدريجيا في الستينات).

وكان كنيدي أول رئيس أميركي يعلن التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل والدفاع عنها مُظهرا إعجابه بنموذجها الديمقراطي في منطقة كانت أميركا تراها تعج بأنظمة مستبدة وغير مهتمة بتحقيق السلام والاستقرار. وقد ارتبط هذا التحول الأميركي نحو إسرائيل بعدة عوامل، الأهم والأبرز بينها هو مواجهة صعود مصر الناصرية التي أصبحت- تحت قيادة الضباط الأحرار- بوابة لدخول نفوذ المعسكر الشرقي ليستبدل نفوذ المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة.

يمكن القول إن التحول الأميركي نحو الدعم الكامل لإسرائيل اكتمل أثناء حرب الأيام الستة عام 1967، أو بما عُرف عربيا بـ”نكسة يونيو/حزيران”. وفي الأسابيع القليلة قبل نشوب هذه الحرب، كانت أميركا منزعجة من تحشيد عبد الناصر مئات الآلاف من الجنود على الجبهة مع إسرائيل (فضلا عن تحشيد سوري أقل عددا على الحدود مع إسرائيل)، فيما بدا استعدادا لشن هجوم عليها. وقد تأكد القلق الأميركي بعد طلب عبد الناصر سحب قوات الطوارئ الدولية المتمركزة على الحدود بين البلدين، وإغلاقه مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية. ورغم القلق الأميركي والاستنكار الدولي للسلوك المصري، بوصفه خرقا للقانون الدولي، بقيت أميركا على الحياد في هذا النزاع المتصاعد سريعا وحاولت التوسط بين الطرفين، بإقناع مصر بسحب القوات والسماح بالملاحة الإسرائيلية، وإسرائيل بعدم القيام بضربة استباقية. لكن إسرائيل المرتعبة من هجوم كبير متزامن على الجبهتين السورية والمصرية لا تستطيع صده، فقررت الهجوم أولا وألحقت هزيمة خاطفة وساحقة بالدولتين وبالأردن الذي انضم متاخرا للتحالف المصري- السوري قبل الضربة الاستباقية لتنهي إسرائيل الحرب باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وصحراء سيناء والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان.
ومع قيام إسرائيل بردها الاستباقي تحول الموقف الأميركي لصالحها، باعتبارها دولة دافعت عن نفسها مضطرة إزاء هجوم كبير وشيك ضدها على جبهتين متباعدتين.

بعد نهاية الحرب بأيام، أعلن الرئيس ليندون جونسون التزاما ودعما أميركيا غير مسبوق نحو إسرائيل في خطاب له أمام أعضاء في الحزب الديمقراطي، قائلا: “نحن مع إسرائيل لأن إسرائيل في تشكلها وفي وجودها تمثل التزاما بالديمقراطية والحرية. نحن مع إسرائيل لأنها تجسيد للقيم العظيمة التي ورثناها من أسلافنا- قيم الحرية والعدل والبذل والكرامة الإنسانية- وسنستمر بدعم دولة إسرائيل”.

في جانب منها، حملت كلمات جونسون هذه فهما استشراقيا شائعا وإشكاليا، تكرسه أيضا إسرائيل والجماعات المؤيدة لها في أميركا، بخصوص التشابه الثقافي والتاريخي بين تجربتي إسرائيل وأميركا: المهاجرون القادمون من أماكن بعيدة ليبنوا دولة ناجحة وديمقراطية في جوار عدائي يتشكل من “برابرة مستبدين”.

لكن في جانب آخر، كانت هذه الكلمات تأكيدا لإعجاب أميركي جديد، شعبي وسياسي، بإسرائيل كنتيجة لحرب 1967. ففي زمن كانت أميركا فيه تخوض في أوحال حرب فيتنام من دون القدرة على تحقيق نصر حاسم ونهائي، كانت قدرة إسرائيل على تحقيق مثل هذا النصر، وعلى نحو سريع، ضد ثلاث دول عربية أمرا لافتا ومثيرا للإعجاب، ما يؤهلها لأن تصبح حليفا استراتيجيا لأميركا يمكن الوثوق به والاعتماد عليه. وهكذا كان حتى الآن حيث يتعرض هذا التحالف في هذه الأيام لأكبر تحد له بسبب الحرب في غزة منذ أكثر من نصف قرن.


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.